فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}
{أم} للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجيبي، وهو ارتقاء بإبطال دعواهم أن يكون القرآن مفترًى من دون الله.
ولما اختصت {أم} بعطف الاستفهام كان الاستفهام مقدرًا معها حيثما وقعت، فالاستفهام الذي تشعر به (أم) استفهام تعجيبي إنكاري، والمعنى: بل أيقولون افتراه بعدما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء.
ومن بديع الأسلوب وبليغ الكلام أن قدم وصف القرآن بما يقتضي بعده عن الافتراء وبما فيه من أجل صفات الكتب، وبتشريف نسبته إلى الله تعالى ثم أعقب ذلك بالاستفهام عن دعوى المشركين افتراء ليتلقى السامع هذه الدعوى بمزيد الاشمئزاز والتعجب من حماقة أصحابها فلذلك جعلت دعواهم افتراءه في حيز الاستفهام الإنكاري التعجيبي.
وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن دعوى الافتراء بتعجيزهم، وأن يقطع الاستدلال عليهم، فأمرهم بأن يأتوا بسورة مثله.
والأمر أمر تعجيز، وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن، أي تشابهه في البلاغة وحسننِ النظم.
وقد تقدم تقرير هذه المماثلة عند تفسير قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} في سورة البقرة (23).
وقوله: {وادْعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} هو كقوله في آية البقرة (23): {وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}، ومعنى {صادقين} هنا، أي قولكم أنه افترى، لأنه إذا أمكنه أن يفتريه أمكنكم أنتم معارضته فإنكم سواء في هذه اللغة العربية.
وحذف مفعول {استطعتم} لظهوره من فعل (ادْعوا)، أي من استطعتم دعوته لنصرتكم وإعانتكم على تأليف سورة مثل سور القرآن. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}
وقد سبق هذا المجيء بالتحدي أسبابُ عجزهم عن النجاح في التحدي؛ لأن الآية السابقة تقرر أن الكتب السماوية السابقة تُصَدِّق نزول القرآن الكريم، وبينها وبين القرآن تصديق متبادل.
فهم مهزومون فيه قبل أن ينزل.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38].
وقد جاء التحدي مرة بالكتاب في قول الحق سبحانه: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
ولم يستطيعوا، فنزلت درجة التحدي؛ وطالبهم أن يأتوا: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13].
فلم يستطيعوا الإتيان بعشر سور، فطالبهم أن يأتوا بسورة تقترب ولو من بعيد من أسلوب القرآن، فلم يستطيعوا {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].
فكيف إذن من بعد كل ذلك يدَّعون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن، وهو صلى الله عليه وسلم لم تكن له صلة بالأساليب البلاغية أو الفصاحة؟!
لقد دعاكم أن تأتوا بكل الفصحاء والبلغاء ليفتروا، ولو سورة من مثله، ووضع شرطًا فقال: {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} [يونس: 38].
لأن الله سبحانه وتعالى هو القادر الوحيد على أن يُنزل قرآنًا؛ لذلك دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوا الشركاء؛ وذلك حتى لا يقول الكفار وبعضهم من أهل اللجاجة: سندعوا الله؛ ولذلك يأتي القرآن بالاستنثاء {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]. وهم بطبيعة الحال غير صادقين في هذا التحدي.
والله سبحانه وتعالى حين يرسل رسولًا إلى قوم؛ ليعلِّمهم منهجه في حركة الحياة، إنما يريد سبحانه أن تؤدي حركة الحياة إلى الغاية المطلوبة من الإنسان الخليفة في الأرض؛ ولذلك يأتي الرسول من جنس المرسل إليهم؛ ليكون أسوة لهم؛ لأن الرسول إن جاء مَلَكًا لما صحَّت الأسوة، بل لابد أن يكون بشرًا.
والحق سبحانه لا يرسل أي رسول إلا ومعه بينة ودليل صدق على أنه رسول يبلِّغ عن الله تعالى.
والبينة لابد أن تكون من جنس نبوغ القوم، فلا يأتي لهم بمعجزة في شيء لم يعرفوه ولم يألفوه؛ حتى لا يقولوا: لو تعلمنا هذا لجئنا بمثل ما جاء.
وقد جاء القرآن ليثبت عجزهم عما نبغوا فيه من صناعة الكلام؛ شعرًا ونثرًا وخطابة.
وكان القرآن هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم فصحاء يعقدون للشعر أسواقًا، ويعلِّقون الفائز من هذا الشعر على جدران الكعبة شهرة له وشهادة به.
إذن: فهم أصحاب دراية بصناعة الكلام، وجاءت المعجزة مع الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغوا فيه؛ لتتحداهم.
والتحدي يستدعي استجماع قوة الخصم؛ ليرد على هذا المتحدي، فإذا عجز مع التحدي، يصير العجز ملزمًا.
وقد تحدى الحق سبحانه العرب جميعًا بالقرآن كله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، فتدرَّج القرآن معهم في التحدي فطلب منهم ما هو أقل من ذلك، وهو أن يأتوا بعشر سور مثله في قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13].
ثم تحداهم بالإتيان بمثل سورة من القرآن.
وعند التأمل نجد أن الأسلوب الذي جاء بطلب سورة كان على لونين: فمرة يقول: {بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38].
ومرة يقول: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].
وكل من اللونين بليغ في موضعه فـ {بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] تبين أن المثلية هنا محققة، أي: مثل ما جاء من سورة القرآن. وقوله: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].
أي: سورة من مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أنه لم يجلس إلى معلِّم، ولم يقرأ، ولا عُرف عنه أنه تكلم بالبلاغة في أي فترة من مراحل حياته قبل الرسالة.
وقال الحق سبحانه: {قُل لَّوْ شَاءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
إذن: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].
أي: مثل محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يتعلم وكان أميًا، ولكن لماذا يأتي هذا اللون من التحدي؟
لأنهم قالوا عن القرآن:
{أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5].
بل واتهموه في قمة غفلتهم أنه يتعلم من رجل كان بمكة، فيلفتهم القرآن إلى أن الرجل الذي قالوا إنه معلم للرسول صلى الله عليه وسلم كان أعجميًا غير عربي، يقول الحق سبحانه: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].
ويريد الحق سبحانه أن يصنفهم، فيقول بعد ذلك: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)}
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ}: في {أم} وجهان أحدهما: أنها منقطعةٌ فتتقدر ببل والهمزة عند الجمهور: سيبويه وأتباعهِ، والتقديرُ: بل أتقولون، انتقل عن الكلام الأول وأَخَذَ في إنكارِ قولٍ آخر. والثاني: أنها متصلةٌ ولابد حينئذٍ مِنْ حَذْفِ جملةٍ ليصِحَّ التعادلُ والتقدير: أيقرُّون به أم يقولون افتراه. وقال بعضُهم: هذه بمنزلة الهمزةِ فقط. وعَبَّر بعضهم عن ذلك فقال: الميمُ زائدة على الهمزة وهذا قولٌ ساقط، إذ زيادة الميم قليلة جدًا لاسيما هنا. وزعم أبو عبيدة أنها بمعنى الواو والتقدير: ويقولون افتراه.
قوله: {قُلْ فَأْتُواْ} جوابُ شرطٍ مقدر قال الزمخشري: قل: إن كان الأمرُ كما تَزْعمون فَأْتوا أنتم على وجه الافتراءِ بسورةِ مثلِه في العربية والفصاحة والأَبْلغيَّة.
وقرأ عمرو بن فائد {بسورة مثلِه} بإضافة سورة إلى {مثله} على حَذْف الموصول وإقامة الصفة مُقامَه، والتقدير: بسورةِ كتابٍ مثلِه أبو بسورةِ كلام مثله. ويجوز أن يكون التقديرُ: فَأْتوا بسورةِ بشرٍ مثلِه فالضمير يجوز أن يعودَ في هذه القراءةِ على القرآن، وأن يعودَ على النبي صلى الله عليه وسلم. وأمَّا في قراءة العامة فالضمير للقرآن فقط. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} كلَّتْ القرائح، وخَمَدَتْ نيرانُ الفصاحة، واعترف كلُّ خطيب مصقْعٍ بالعجز عن معارضة هذا الكتاب، فلم يتعرَّض لمعارضته إلا مَنْ افتضخ في قالته. اهـ.

.تفسير الآية رقم (39):

قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم كان كأنه قيل: فقال لهم ذلك فلم يأتوا لقومهم بشبهة توجب شكًا فضلًا عن مصدق، لأنه معجز لكونه كلامًا في أعلى طبقات البلاغة بحسن النظام والجزالة منزلًا من عند الله المحيط علمًا وقدرة، فهو مشتمل من كل معنى على ما علا كل العلو عن مدان: {بل}.
وأحسن من ذلك أنه لما أقام الدليل على أن القرآن كلامه، وكان الدليل إنما من شأنه أن يقام على من عرض له غلط أو شبهة، وكان قولهم: {افتراه} لا عن شبهة وإنما هو مجرد عناد، نبه سبحانه على ذلك وعلى أنه إنما أقام الدليل لإظهار عنادهم لا لأن عندهم شبهة في كونه حقًا بالإضراب عن قولهم فقال: {بل} أي لم يقولوا: {افتراه} عن اعتقاد منهم لذلك بل: {كذبوا} أي أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك من غير أن يتفهموه مستهينين: {بما لم يحيطوا بعلمه} اي في نظمه أو معناه من غير شبهة أصلًا بل عنادًا وطغيانًا ونفورًا مما يخالف دينهم وشرادًا، فهو من باب من جهل شيئًا عاداه والإحاطة: إرادة ما هو كالحائط حول الشيء، فإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه.
ولما كان لابد من وقوع تأويله، وهو إتيان ما فيه من الإخبار بالمغيبات على ما هي عليه، قال: {ولما يأتهم} أي إلى زمن تكذيبهم. أي ترجيعنا لأخباره إلى مراجعها وغاياتها حتى يعلموا أصدق هي أم كذب، فإنه معجز من جهة نظمه ومن جهة صدقه في أخباره؛ والتأويل: المعنى الذي يؤول إليه التفسير، وهو منتهى التصريح من التضمين.
ولما كان كأنه قيل: إن فعلهم هذا لعجب، فما حملهم على التمادي فيه؟ فقيل: تبعوا في ذلك من قبلهم لموافقتهم في سوء الطبع، قال مهددًا لهم ومسليًا له صلى الله عليه وسلم: {كذلك} أي مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبير المعجز: {كذب الذين} ولما كان المكذبون بعض السالفين، أثبت الجار فقال: {من قبلهم} أي من كفار الأمم الخالية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم؛ ولما كان التكذيب خطرًا لما يثير من السرور، سبب عنه- تحذيرًا منه- النظر في عاقبة أمره فقال: {فانظر} أي بعينك ديارهم وبقلبك أخبارهم.
ولما كان من نظر هذا النظر وجد فيه أجل معتبر وأعلى مزدجر، وجه السؤال إليه بقوله: {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر: {الظالمين} أي الذين رسخت أقدامهم في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى كذبوا من لا يجوز عليه الكذب بوجه، ومن المقطوع به أن هذا المسؤول يقول من غير تعلثم ولا تردد: عاقبة وخيمة قاصمة ذميمة؛ والعاقبة سبب تؤدي إليه البادئة، فالذي أدى إلى إلى هلاكهم بعذاب الاستئصال ما تقدم من ظلمهم لأنفسهم وعتوهم في كفرهم. اهـ.